السبت، 3 يوليو 2021
ما رأيكم في هذه القصّة القصيرة: «النّبأ»؟؟؟
https://suar.me/mVL51 لقد تلقّيت الخبرَ صعقا على رأسي، وكأنّ نازلة نزلت عليّ، وداهية طوّقت بحالي، حتّى كدت ألفظ النّفس الأخير وأنا في طريقي سائر، أكابد أهوال المشي المُضني، وأتصبّب عرقا حتّى أنّ جبيني ترقرق وبرق، وكانت الشّمس الحارقة تلقي بأشعتها فتزيد الطّين على هيأته بلّة، وما أكاد أخطو خطوات يسيرات حتّى تتتابع عليّ هذه الأشعة وتلحقني لِحاقا، فتلهب ثيابي لهيبا، وتشعل النّار في جوارحي المرهقة... لقد سمعت النُّذر فما كدت أصدّق منه كلمة، ولا أعقل فيه حرفا، أو أتبيّن من شكله الظاهريّ صورة حسنة، إنّما حسبته –للوهلة الأولى- ضربا من ضُروب الجنون الكثيرة، والتّي ازدادت كثرتها في زماننا هذا، إلاّ أنّ الواقع كان –حقّا-واقعا، وكانت الحقيقة على مرارتها حقيقة... لقد وقعتُ أسيرا لرياح الشّك تصيّرني أينما شاءت وكيفما حبّذت، وتعثّرت في وحل الارتياب، فما كادت يد تسحبني، وتنقذني منه... كلّ الطّرق ضاقت بما رحبت، وتقلّصت بما وسعت، وكلّ سبيل اختلطت معالمها في ذاكرتي، وكأنّ الظّلام ينزل تباعا على كلّ شبر تطأ فيه قدمي، فما كدت أتبيّن مسيري ولا وقع أفكاري، والحقيقة كلّ الحقيقة أنّ ذاك الأمر قد أرعبني. وقفت في مفترق الطُّرق، هل أسير شِمالا؟ أم يمينا؟ أم أتابع إلى الأمام عَنوة؟ أم ألتقط نفسا؟ أم أحمل كمّي وأمسح به عرق جبهتي؟ أم ألتمس ذرّات ماء يُقِمن رمقي؟ ويخمدن بركاني؟؟ أم أين المفرُّ؟ وقد توافدت الأسئلة واجتاحتني الأخْيِلَة، وخانتني القوّة، وصدّني التّفكير العقِيم، إنّها لطامّة كبرى، ولقارعة قرع لها الفؤاد واختلج منها الصّدرُ. سرتُ ما شاء الله لي، وغذذت الخطى خطوة خطوة، غير آبهٍ إلى أيّ طريق أهتدي، حتّى أنّني لم أقترب ذراعا من مكان الحادثة التّي نُبّهت بها. ولا أعرف –بلا مؤاخذة- للآن هدف هذا التّنبيه، أو قائل ذلك الشؤم، فقد سمعت وأنا في رجعتي إلى بيتي مناديا من السماء ينادي : «اِلْحق على نفسك، فإنّ كارثة ستبتلعك ابتلاع الأرض للماء». ولم أفهم ماهيَة الصّوت، إلاّ أنّه بدا لي وكأنّه نُفخ من بوق، ولا يزال صداه يطرق على أذني طرقا يُنجِب الصّمم، حتّى علمت –علما لا زيغ فيه- بخطورة الأمر، وفيما شاهدت ولمحت أنّ غيري لم يكن يدري به ولم تسنح له الفرصة للإحاطة بعلمه، وكأنّها موجات صوتيّة أُرسِلت لي، لتقع على مجاري سمعي أنا وحدي!! بدأت الشّمس تذُوب في صفحة السّماء، وكانت في احتضارها هذا ترسل آخر صور البهاء والجمال النورانيّ، حينما لمحت شيخا يبكي بكاء مريرا عند طرف الزُّقاق، فهُرعت له هرعا، وشعرت أنّ شيئًا ما جذبني نحوه كجذب المغناطيس للحديد، ولم أكد أصل إليه حتى صرخ صرخة مدوية. لم أكد أتبيّن وجهه جيّدًا حتى عرفت فيه أديبا من الأدباء المشهورين، أخذني من تلابيبي وقال بصوت متهدّج : «اِلْحق على نفسك..» وسكتَ، فلم أكد أهضم كلمته حتّى قلت : «أين وكيف؟!»، فردّ باكيا : «مِن هناك.. عَن يمينك». ولم يرتد طرفي لليمين، حتّى ذاب الأديب في الأرض، وتطاير رماده في السّماء، تطايرَ غبش الرّسالة المأكولة بنيران اللّهب، وأكملت مسيري لاهثا نحو اليمين. تفاقمتْ دقّات قلبي، حتّى شعرت أنّه في سعيه لتعبيد طريقٍ خارج صدري، ولم أضع خطوات حتى وجدت زاوية مظلمة نهاية الزقاق –وهذا ما أخذني إليه اليمين- وكانت هذه الزاوية لوحدها مظلمة، بينما ينير الشّفق الدّمويّ بخفرٍ ما دونها، وجذبني إليها ما فعل في الأولى، فدخلت فيها وكأنّي ألج بابا سرّيًّا، أو ثقبا أسودا، ابتلعني ابتلاعا، وسار بي إلى ما هو مجهول وغيبيّ، حتّى شعرت وكأنّي أسبح بين لجج السّواد المعتم، والظلمة الطافحة، فلم أرَ يديّ ولا ثيابي ولا طريقي، ومضِيتُ ساقطا في حفرة لا قرار لها حتّى ارتطمت فجأة بجدار وأخذني الدّوار المُهلك، وتملّكتني الدّهشة وركِبتني شفقة ما أعيش، وغاب عقلي ونمت. استفقت؛ كان اللّيل قد أتمّ جثومه على أديم الأرض وقد تلألأت النّجوم الساهرة في بدنه، وأضاء القمر جنباته بغِلالة نيّرة، فكان كثغر حسناء بسّام فتّان. لم يقطع عليّ النّوم إلاّ صراخ يأتي من غير قريب، وأوّل ما اكتنفني عند شعوري بحواسي، هو أنّ جبلا يربض على جبهتي، وقدّرت أنّ هول السّقطة فعلت فعلتها، ونتيجة الاصطدام قد أثارت ما أثارت. لدقيقة فقط.. حاولت تفسير ما أعيشه، فلم ألقَ تفسيرا، وأردت قرص يديّ فلم يتغيّر في الأمر شيئ، فعضضتها فلم يسرِ فيّ شيئ إلّا الألم، وفكّرت أنّي في عالم غريب، لا بدّ من خطّ نهاية لمتاهته، ولم أجد هذه المرّة ما يُنير العتمة، ومضيت جالسا ثمّ مقرفصا، أتأمّل في السّماء وأتنشّق العليل، وأطرب بهدأة اللّيل، ولم أكد أذق ضربا يسيرا من السّعادة والنّشوة الرّوحيّة، حتى انقلبت الأرض غير الأرض وقطع السّكونَ الضّجيج العشوائيّ، وانساقت الصّور في رأسي فعاودني الدّوار، فوثبت وثبة الغزالة، وركضت ركضا في كلّ جهة وفي غير جهة، ركضت حتّى ضاق بيّ الرّكض، ركضتُ كالمحمُوم، وما كدت ألتقط نفسا، حتّى سمعت صُراخا ثانيا يتتابع في مسمعي، لكنّ وقعه ذِي المرّة كان مختلفا، خُيّل لي أنّه نشيد ما أو أغنيّة تشابه ما تغنّيه القبائل الإفريقيّة القديمة، أو ربّما مشيج من هذا وذاك، فتملّكني الخوف والجزع ولم أشأ إلاّ أن أتبع الصّوت بدل أن يتبعني هو نفسه. حاولتُ وكشرّت عن أنياب شجاعتي، سرت وراءَه كشخص يقتفي أثر شخص آخر، وكنت كلّما أدنو منه يزداد في غُلواء ضجّته، حتّى وصلت إلى أرضٍ غريبة.. كانت ربوة، عالية بأمتار قليلة عن السّطح، وجدتُ فيها أخيرا منبع الصّوت الذّي كان يجري فيّ، ولقيت –للعجب- ثُلّة من الأشخاص المغنّين بصوت شجيّ وكان قد اختلط الصّوت المزعج بتراتيلهم.كان هؤلاء محيطين بنار يشبّ مارِجها وتحرق ألسنتها الأوراق الكثيرات، فقد زكمت أنفي رائحة الحبر المحرُوق وسُدّت مفاتيحه سدّا، وشعرت أنّ طاقة عجيبة جذبتني إليهم، فأوجست في نفسي خيفة من هذا الجذب الذي يحيط بي كل ساعة. وأيقنت فقط – أي وقت اقترابي منهم بعد اعتلائي الرّبوة- ماهية النبأ، وتحذير الأديب، وما ساقني إليه هذا الصوت المزعج الذي أيقنت أنه صراخ كلماتي، وحروفي التي خططتها عبر سنوات طَوال، وكل ما كتبت من قصص هي الآن تتعذّب تحت وطأة هؤلاء المجانين. هرعت إليهم وبدأت أضرب الواحد منهم تلو الآخر فما تحرّك أحد، وكأنّهم خُشُب مسنّدة، أو أصنام رُكّبت في الأرض، وغُرست في أعماقها .. سقطت على رُكبتيّ يائسا، ولم أجد إلّا البكاء يعزيني ويواسني، وكانت كلّ قطرةِ دمعٍ تسيح سخينة على الوَجنة تقابلها ضحكة مجلجلة من الدائرة الشّيطانيّة المحيطة بنارٍ تنبش أوراق كتبي .. ولم ألبث أن سمعت من أحدهم : «هذا جزاء القصّة! .. وما فائدة القصة ..؟». ومن ثانٍ : «إنّ قصصك سترمي بك إلى قيعان جهنّم». وذاك يستهزئ ويبصق على الأرض: «لم تأكل إلّا عقول الشباب ولم تسرِق إلّا أوقات البشر». وبكيتُ أكثر، فقال أضخمهم : «مُتْ ببكائِك لا رحِمك الله..» وضاقت أنفاسي، وحشرجت روحي، وشعرت بطعم المرارة يجول في حَلقي، فناديت : «أليس فيكم رجل رشيد؟؟» فجلجلوا، وصرختُ حتّى كادت أوداجي تنفلتُ من عُنقي : «إنّه لعلم، ولو كان غير هامّ لكم، فهو كذلك عند طائفة غيركم.. وإنّ القرآن قد أتى بثُلثه قصّة، والإنجيل أكثر من ذاك، والتّوراة يزيد، وإنّ القصّة لأفضل معلّم وأقوم قائل، وإنّ العبرة فيها لتظهر جليّة ممتعة مستساغة..» فما رأيتُ منهم حركة ولا سمعت عنهم نأمة، وما وشوا بشفقة على حالي، وما تذكّرت أنا غير قول القائل: لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا ولكن لا حياة لمن تُنادي وضاق صدري بهم ذرعا، فانتفضتُ ثانية وأردت الدّخول بين النار علّني أنقذ ما أنقذ، لكنّهم حالوا بين ذلك للمرّة الثّانية، وقذفوني بين الأشواك، واختلط نشيجي بدمي، فهذرتُ في غمرة كَبوتي : «أفلا تعقلون ؟؟ ..أفلا تتفكّرون؟؟». *** علا رأسي وتردّد الهلع مع أنفاس صدري اللّافحة، ووجدت بدني غارقا في عرقي، رمتِ الشّمس بأشعّتها الصّباحيّة حينما استفقتُ، ورأيت أوّل ما رأيت مكتبي وأقلامي وأوراقي متناثرة فاغتبطتُ، ثمّ تبيّن لي وجهها الملائكيّ فقالت : «حمدًا لله.. لتوّك فقط جانبت الهذيانَ..» فابتسمتُ ابتسامة واهنة وغمغمتُ : «نحنُ نقصُّ عليكَ أحسن القَصص بما أوحيْنا إليك» ، فخُيِّل لي أنّها قالتْ : «وكُلاًّ نقُصّ عليك من أنباء الرُّسل ما نثبّت به فُؤادك»، فشعرت أنّ الطُّمأنينة قد ثبّتت قلبي حقّا، وسقطت على الوسادة متنفّسا الصّعداء. وعلمتُ –أخيرًا- أنّه مجرّد كابوس من كوابيس الأدباء. تمّت. ماي 2021.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
دائماً، رأيكم يهمنا،