الأحد، 4 مارس 2018

ربما لم تمت بعد.. وربما لاتزال بعض الإنسانية بداخلك.. وصية قبل الوداع..

في زاوية مظلمة يشق منها جزء بسيط من النور أجلس متربعاً على الأرض؛ أكتب بقلمي على بضعة أوراق متناثرة، لا أحب الكتابة على الورق عادةً، لكن لا يبدوا أن هنالك خياراً آخر فلا شيء من أجهزتي الإلكترونية يعمل، فليس عندي أياً من مقومات الحياة الأساسية لا كهرباء ولا ماء ولا غذاء ولا دواء.. لست في سجن صغير أو زنزانة مفردة.. أنا في سجن كبير وجماعي يسمى الغوطة الشرقية.. يحاصره عشرات الآلاف من جنود نظام الحكم ومرتزقة من شتى بقاع الأرض، لا شيء يدخل ولا يخرج ولا يخضع هذا السجن لأدنى معايير أو قوانين السجون.. ليت الأمر ينتهي عند هذا الحد عندها لن أكمل الكتابة، لكن يبدوا أني مضطر للمتابعة..

سرب من الطائرات الحربية يجول في السماء فوقي الآن أثناء كتابتي، لن أخرج لأرها كما كنت أفعل أيام الصبى؛ إذا أنها أتت لتحرق مدينتي وتقتل أهلي، لا أدري هل سأتمكن من متابعة الكتابة أو أنّ أحد الصواريخ المنهمرة من حولي ستكتب نهايتي.. لا بأس.. سأستمر في الكتابة طالما لاتزال يداي تتحرك.. الطائرات بعضها يقصف ويدمر وبعضها يحرق ويخنق.. غازات سامة وقنابل حارقة.. كلّ ثلاثون دقيقة تمطر المدينة بوابل من راجمات الصواريخ.. على كلّ حي من ثلاثمئة إلى خمسمئة صاروخ [ الأرقام لا تهم..! ] كلُّ بناء وكلّ بيت لم تدمره الطائرات تدمره راجمات الصواريخ...

لن تسمع أصوات الناس من حولك سوى استغاثات ونداءات من أصيبوا من القصف ولم يموتوا بعد، ثمّ يعود الهدوء المخيف بضع دقائق لتكسره أصوات القذائف والصواريخ من جديد.. كم هو مؤلم أن ترزح تحت القصف والقتل وشعور العجز يصيبك وأنت ترى دمعة والدتك ولا تملك ما يمكنك من مسح دمعتها.. كم هو مولم أن ترى الخوف في اعين إخوتك ولا تملك ما يطمئنهم.. كم هو مولم أن ترى القهر في عين والدك وأنت عاجز عن إزالة قهره.. عندها تتمنى أن تبقى على قيد الحياة لا لتعلقك فيها وإنما للصمود بوجه عدوك وتذيقه من نفس الكأس.. ثم تتذكر.. أنك عاجز..

.

.

رائحة القذائف والصواريخ تملأ الجو من حولي.. سأكمل فيما بعد فلم أعد قادراً على الكتابة في الوقت الحالي..

.

.

أعداد الشهداء والجرحى يتزايد يومياً من عشرات إلى مئات.. لكن مجدداً [ الأرقام لاتهم! ] فنحن في النهاية أصبحنا أرقاماً لا بشراً في الأعراف الدولية، وبقتلنا يتم تربية باقي الشعوب على ألا تجرؤا رفض حياة العبيد في الحظائر التي تسمى ( دولاً ) والتي لا يتجاوز دور الفرد فيها عن الأكل والشرب والفراش.. لا شيء مختلف عن حياة البهائم.. لا شيء.. ومن الغريب أن البعض منهم إذا أخبرته بهذا سينزعج لا لأنه لا يصدق بل لأنه لا يريد أن يصدق مقتنعاً بحياته وأمانه الزائف وحدود حظيرته..

لا يلُمنا أحد لم خرجنا ولم ثرنا من البداية.. لا فارق كبير في الأمر.. نحن الآن نقتل بشكل علني مباشر لكن قبل الثورة كنا نقتل بصمت وهدوء أكثر.. الفرق أننا نقتل بعزة وشرف لا بذلٍ وخنوع.. الفرق أننا كنا نموت دون أن نزعج أحد ودون أن يتباكى علينا أحد؛ الآن باتت أخبارنا مصدر إزعاج للكثيرين لا أكثر..

لربما الفارق الجيد الوحيد في ثورتنا أننا قمنا بتعرية الكثير من الوجوه من تحت الأقنعة.. وعلى أعتابنا سقطت أكاذيب الإنسانية والعروبة والإخوّة والحريات والأنظمة والقوانين والأعراف الدولية.. لا داعي لتفصيل ما هو واضح وجَليْ.. نُباد بكل أنواع الأسلحة المحرمة والمحللة دولياً ومع هذا لا إقرار.. لا تجريم.. لا عقاب..

لازال العالم بعد سبع سنوات من القتل والإجرام لا يعلم من يَقتل ومن يُقتل.. من الجاني ومن المجني عليه.. ليس جهلاً وإنما تجاهل.. ليس تخبطاً وإنما تواطئ.. لم نعد نكترث.. لا شيء يستحق أن نكترث لأجله.. لا أرواحنا ولا ضمائركم.. كلاهما ماتا سوياً.. لم يبقى ما يستحق العناء بعدهما.. لا شيء..

آسف لكل قارئ أثرت إزعاجه بكلماتي.. إن انزعجت حقاً وأقنعت نفسك أنه لا يمكنك نصرتنا فانسَ ما قرأت، وعدْ إلى حظيرتك وأمانك الزائف ولا تقلق بشأن نصرتنا فلا يمكنك أن تفعل أي شيء فأنت في النهاية عبد ولا تملك حرية التفكير ولا التصرف..

لم تكن هذه قصة عابرة؛ سطرت وُكتبت ثم انتهت.. لاتزال هذه الوقائع تتكرر يومياً داخل الغوطة الشرقية وكلّ بضعة دقائق يسقط شهيد تلو الآخر بكل الطرق الهمجية والبربرية بشتى أنواع الأسلحة المحللة والمحرمة دولياً الكيماوي والنابلم الحارق والعنقودي والفسفور وتحت أعين الجميع..، سنبقى في الغوطة لن نقبل الخروج منها والخنوع لنظام الحكم نظام الإجرام مهما اشتدت بنا المأساة ومهما عظُم بنا المُصاب.. ويبقى السؤال.. هل سيهرع أحدٌ لنجدتنا؟؟ هل الشعوب ستبقى ساكنة أم ستستفيق وتعلم أنّ مصير الشعوب واحد ولن تقبل أن تؤكل البلاد متفرقة؟؟..

تحت القصف والقتل والدمار داخل أسوار الغوطة الشرقية سنبقى صامدون.. منتظرون.. آملون بنصر قريب من الله تعالى ولعله يكتب بسواعد تحرككم ونجدتكم

خرجت من زاويتي ودمي على كفي معرضاً نفسي للموت شبه المحقق باذلاً مجهوداً خرافياً وبطرق غير منطقية للحصول على بعض الكهرباء والانترنت لإيصال رسالتي لكم آملاً أنّ تستجدي شيئاً من ضمائركم.. لن أتواجد للإجابة أو الرد على تعليقاتكم فلا أدري متى يمكنني الوصول للأنترنت مرة أخرى، وهل سأبقى على قيد الحياة لذلك الوقت.. لكن إن لم تكتب لي حياة فهذه كانت كلمات وداعي لكم..



from حسوب I/O - الأكثر شيوعاً http://ift.tt/2Fi3hYl

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دائماً، رأيكم يهمنا،