الخميس، 24 نوفمبر 2016

هل اليسار ممكن في العالم العربيّ اليوم؟ - صقر أبو فخر

امتازت الحركات اليساريّة العربية، في ذروة حضورها الفكريّ والسياسيّ طوال خمسينيّات القرن العشرين وستينيّاته، بأنها حركاتُ مثقفين ومناضلين معًا. لكنّ صورة المثقف عمومًا، وصورةَ المثقف اليساريّ خصوصًا، راحت تتعرّض للانكسار قبيل نهاية القرن العشرين، ففقدتْ، إلى حدّ ما، بريقها وجاذبيّتها وقدرتها على الإقناع.

ذلك لأنّ الوقائع المفاجئة والتحوّلات الكبرى التي عصفتْ بالعالم العربيّ جرت على خلافِ ما كان يقوله هذا المثقف، أو يبشّر به، أو ينتظر حدوثه. فخابت، بهذا المعنى، أفكارُه وتطلّعاتُه. ومع انحسار الناس عنه صار مثلَ خطيبٍ أعمى يلقي محاضرةً في جمهور من الصُّمّ.

فالعصر الجديد، بتحوّلاته المتسارعة التي فرضتْ نفسَها على العالم، وأقصد بذلك العولمة، بات لا يحتاج كثيرًا إلى المثقف ونبوءاته وتوقّعاته؛ فقد حلّت العلومُ الدقيقة وثورةُ المعلومات والاتصالات وعلوم الفضاء وعلم الجينات وتطبيقاته في الطبّ والغذاء محلّ النظريّات النقديّة الكبرى التي حاولتْ أن تقيم عالمًا جميلاً وعادلاً وسعيدًا على الأرض بدلاً من السماء، والتي حمل لواءها مثقفون صاروا اليوم كمن يعطس في سوق النحّاسين، فلا يسمعهم أحد ليقول لهم: يرحمكم الله.إنّ ما يلائم هذا العصرَ، كما يبدو لي، هو الابتكاراتُ العلميّة والأفكارُ الخلاقة في العلوم البصريّة والإلكترونيّة وتطبيقاتها في الصناعة. أما الأفكار والنظريّات الإنسانيّة فلا تلائمه كثيرًا مع الأسف، لأنه عصرُ إبادة الأفكار بسرعة (فلنقارنْ مثلاً كم عاشت أفكارُ الفلاسفة الجدد في فرنسا، بكم عاشت نظريّاتُ فوكوياما وهنتنغتون!).

اليساريون مثقفون على العموم، وهم كثر بلا شك، لكنّ الواحد منهم صار أقرب إلى المثقف الداعية، أي الذي يرِّوج الأفكار بدلاً من ابتداع الأفكار النقديّة المطابقة لوعي ديناميّ يتجاوز الواقع. وبهذا المعنى فإنّ المثقفين اليساريّين التقليديّين، الذي خاب أملُهم بوعود المستقبل، تحوّلوا أحيانًا إلى ممارسة دور السياسيّين ولكنْ بوجهٍ ثقافيّ، تمامًا كما فعل بعضُ السياسيين الفاشلين الذين تحوّلوا إلى مثقفين رديئين؛ فباتت آراؤهم غير قادرة على المواجهة والإقناع، وصار كلامُهم غثّاً وخطابُهم رثّاً.



from حسوب I/O - الأكثر شيوعاً http://ift.tt/2fKf3uq

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دائماً، رأيكم يهمنا،